الأربعاء، 20 أبريل 2011

الأحد، 17 أبريل 2011

محاولة...


"لم أعد أقاوم الذكرى، لأن ذلك يزيدها قوة......"

أخطو خارج الحافلة وأنا أنفض عني الضجيج المحرّك و الأصوات المخنوقة و دخان سجائر. أتوقف للحظات، أتفحصني دون اهتمام صادق وأنا أمسح بعيني محطتي وتلك الوجوه البائتة. أعبر الشارع بعبوس والضجيج لا يزال يطاردني، وأمضي في طريقي نحو

بنايات قديمة شاحبة فقدت ألوانها بمحطة الانتظار. أمسح تفاصيلها المثكولة بعيناي المتعبتين وأنا أحضن حقيبة لا تنتمي إليّ.

كل الطريق كان يذكرني بك ويخبرني عنك بإصرار سادي يجلد كل محاولات النسيان المعتلّة، أكاد اسمعها تهتف باسمك فتهرع كفاي لتسدّا آذاني..... وأرى نفسي كالمجنونة بنظرات المارّة. المقاعد الإسمنتية الباردة الموسومة بالخطايا و الأكاذيب الوقحة، والشجر العاري المتعانق فوق رأسي كان يؤكد أن هجرك ليس بإشاعة، وأنه الحقيقة التي جنّدت كل الأدلة ضدي....حتى الرصيف الرمادي، لم يعد ميتا وشوك الذكرى قد نما بجسده العجوز...فأدمى قدميّ. أستمر بالمشي، وأئن بصمت وأنا أشد على الحقيبة بعصبية.

تزداد تقطيبة جبيني عمقا...وأتسلح ضد رائحة القهوة المرّة. أختار طاولة منزوية في الطرف. أستعمر الفراغ بالفراغ وأنا أنتظر طلب الشاي بالنعناع، أضع الجهاز أمامي وأفتح صفحة بيضاء لا تشبهني. لا أعرف ماذا أكتب عنك لكي أطردك ؟ فلقد أيقنت أن الذكرى حقودة لا تغفر محاولات النسيان، وأن كل ما أستطيعه هو بعثك حيا تبعثرني تعيش بداخلي كما الجنين ببطن الحبلى، تركلني فأشكرك وأربت على بطني وأنا أعد نفسي باقتراب أوان المخاض، و تنسحب من أنسجتي كما ينسحب النيكوتين من الجسد فأشفى من إدمانك. هل اكتب إذن أنك دخان التبغ الذي يعبئ ذاكرتي ويجعلها تنتشي ألما، وأنك من أغذيه من نضرتي وأضفر جدائله وأبتسم لأنني وحدي من يراه جميلا لا يستحق النسيان؟؟

...أنقر كلاما لا اشعر به على لوحة المفاتيح....وألتهم المساحات بالبيضاء بحروف سوداء ضيقة... لا تستوعب حجم الخيبة بداخلي. أحاول إقحامها عنوة، فأفشل، أزيد حجم الحروف إلى 14، 16، 18......فأسخر من سذاجتي وأعيدها إلى أصلها الأجوف...وأستمر بالكتابة:

قبل اربع سنوات، رجوتني أن أتوقف عن تناول الشوكولاته، لأنك تحب وجهي حنطيا دون سواد يحيط بعينيّ، جعلتني أقسم بهجرها... ووازيت بين وفاء القسم ووفائي لك، فهجرتها وشطبت على إحساس طعمها من ذاكرة

حواسي....ولم أعد أشتهيها..وما كنت أشتهي غيرها قبل ذلك القسم

الاثنين، 24 يناير 2011

عاطفة....!!!


بين صفوف المدعوين لمحته في تلك الليلة، ولم استطع الإشاحة ببصري عنه وعن بهاء طلّته وبريق عينيه الرائعتين. ابتسامته الساحرة كانت قادرة عن إذابة جبل جليدي دون جهد.
حاولت الإشاحة بوجهي، لكنّني لم استطع.... كنت كالمسحورة أو الخاضعة لتنويم مغناطيسي. شعرت أن الجمع يعلم مايدور بيننا وأنا أحس بالنظرات الفضولية والهمسات من حولنا، وكأنني صرت صفحة واضحة الحروف، يقرأها العموم....
تقهقرت إلى الوراء، خوفي من هذه المشاعر المختلطة، تقهقرت بعيدا قدرما حملتني أقدامي ليحضنني ركن ضيق بذراعيه الباردتين. جفوني ترفرف كما الطير وقلبي يخفق كما الثائر بسجون العدو، يطرق على جدراني وأبوابي مطالبا بالخروج من قفصه.
يالله !! كم هو رائع ومذهل، وكم هي مدهشة تلك العيون الأسطورية التي نقشتها الخرافة روعة وظللتها رموش غنية ترسم بفرشاتها أصالة الملامح.

...كان يطالعني من حين لأخر بنظراته اللعوب، وهو القابع بين ذراعي امرأة أخرى لم ارها قبلا بسبب افتتاني بروعته. كانت تلك المرأة تقبّله...تداعب خصلات شعره العسلي وتدندن له لحنا تمنيت لحد الموت لو كنت من تدندنه، وتمنيت اختفاءها. كنت الأنثى الجريحة، لاأكاد أفهم سبب الحرب التي تدور داخلي، عاجزة عن تحديد اسم لأمواج المشاعر الهائلة التي ذكرتني بجبروت أمواج "تسونامي"، ضحكت لوهلة -من غرابة ماأعيشه ومن حجم الجرح فيّ- بسبب هذه التسمية. ضحكة أجهضتها فصارت مجرد ابتسامة تسكن أسطح شفاهي وأنا أطالعه للمرة الألف بعينين حائرتين.
طأطأت رأسي وأنا أنظر إلى تشابك أصابعي المتوترة . أحاول فكّها لأعدّ عليها أسماء ماأعرفه من عواطف حتى أختار ما يناسب حالتي التي لم أجد لها إجابة، "غيرة؟؟؟؟ أو ربما لهفة؟؟؟ لا..لا..أظنه حنانا، أو ربما خوفا؟؟....أو ..."
شعرت بعجز كليّ فرفعت ناظري إليه ثانية لأجده يطالعني بثغر باسم ساحر يسحر العصافير على أغصانها ويجعلها تسقط لبن يديه طائعة ملبيّة لروعته. كانت تلك الإبتسامة كتعويذة لبّدت حواسي ونقلتني إلى فراغ الذهول بفقاعة عزلتي عما حولي، فلم أعد أبالي إن رأني أحد. أنا أسيرته!!!!

لم أعد أبالي، ولم اعد أفكر في أن اكتفي بالجلوس وهو بين أحضان امرأة أخرى. أجبرت قدميّ على الحركة باتجاهه، فطاوعتني لوهلة ثم تسمّرت من عجز مجهول. شعرت بطبول نبضي ثانية بآذاني وأحسست بانتفاضة وريد بعنقي. تحسّسته بأصابع مرتعشة وأنا أترقب لحظة نظره إليّ. أحسست أنني أعيش لأجلها، وكأنها السّراج الذي سينير دجاي. تحركت وعيني تبرقان بألق يتناغم ونبضي وإيقاع أنفاسي وارتعاشة كفّي.

ووقفت أمامه وابتسم في وجهي، كان يمد ذراعيه إليّ دون أن يعير المرأة الأخرى أي انتباه. نظرت إليه ونظرت إليها فضحكت في وجهي بشكل استغربته منها. وقالت لي بصوت ترفرف بجدرانه السكينة:
- " احمليه، فهو يريد منكِ ذلك..."
تلفقته منها قبل أن تتم جملتها وانا أنظر إليه بدهشة وسعادة وفرح وإثارة...ولهفة، لاأكاد أدرك مايغمرني وهو يعبث بخصلات شعري، ويحرّك يديه صغيرتين الدافئتين أمام وجهي فتصطدم برفق لذيذ بوجنتيّ. يناغيني بذلك الصوت الرائع الملوكي، فانهلت عليه قُبلا وأنا الفرحة جداّ لأنني لم أقبع بمكاني....
استغرقت بتفاصيل صوته المحبوب وهو يتظاهر بالكلام. أدندن له بما حفظته بقلبي ألحانا له وحده، أدندنها بآذانه كي لايسمعها غيره وهو يمسك بمشاكسة خصلاتي فيشدّها. أتظاهر بالصراخ وأنا أقهقه. قاطعتنا أمّه: -"يبدو أنه يحبّك؟؟؟؟"
ابتسمت بخجل وأنا أدفن وجهي بعنقه الغض وهو يشدّ آذاني هذه المرة.

.
.
.
---------------------
زينب حميتو

الأحد، 23 يناير 2011

صفحات تائهةٍ...تحت المطر

1.
أجول حائرة ، بشوارع ذاك الزمن البارد الممطر ، وفؤادي الوجل يرتجف ببين أضلعي خوفا كارتجاف من ينتظر حكم الإعدام بصقيع زنزانته...
ألملم أطراف ياقتي ...وأشدها على عنقي الهش بأصابع عصبية لاتهدأ. أشدها أكثر ..فأكثر..وأنا أحتضن حقيبة يد قد حشرت بها كل مايجعلني على قيد الحياة.
حشرت بها هوية ...ووطنا بصحراء وأشجارا...وهدايا قطفتها من السماء ليلا ونظمتها في شريط على قنديل حبك..لأجلك...
أحقا لن تأتي؟؟؟؟.....أحقا ستغيب كما يغيب الحق بأوطاننا؟؟؟..أحقا ستتركني وحيدة لزمن ثاني قد تبرأ منه نور الصباحات ..واحتله دجى الليالي؟؟؟..
مالذي أخّرك بهذا الشكل؟؟؟أهي أمرأة ثانية؟؟؟..أم أنها مسألة ثانية؟؟؟....أم أنه أمر يجب أن أقلق لأجله؟؟؟
هل أنت بخير؟؟؟...هل صحتك بخير؟؟؟...هل لازلت تدخن بشراهة؟؟؟؟..هل؟؟...هل؟؟....
أسئلة قيدتني كما الحبال من كل جانب ، وأرغمتنني على التوقف عن التهام الأمتار بقدميّ اللتين فقدتا شهية المشي، فوقفت على الرصيف كما التمثال و قد اتسعت أحداقي خوفا عليه...كخوف الأم على الولد..

...وجف ريقي حتى شعرت ان لساني سيتشقق كما تتشقق الأراضي أيام القحط والجفاف...،ورفضت الدموع أن تقيم مظاهرة تشجب غيابك بساحات خدودي الناعمة التي احتلتها جيوش الشحوب...قلقا...
...ومخيلة إجابات لازالت قيد حكم الأشغال الشاقة ، دون أن تنتج جوابا واحدا كفيلا بعلاج الضوضاء التي تسكن داخلي ..فيشذب أشجار حيرتي..ويبدد الأفكار الطفيلية التي ترعرعت دون منطق...
..وتراقصت عيناي بنظرة مشتتة بعيدة عن التركيز ، وأنا أمسح ببصري بعشوائية محيطي البارد المغسول بأمطار من سخام ، ألبست المكان كآبة معطف من مغيب...
أمسح ببصري وأبحث ، عن وجه أعرفه...عن وجه أعشقه....، عن وجه يأتي دائما متأخرا كما الأمل.......

.
.
.

2.
أشد ياقة معطفي أكثر،على حنجرة لم تتكلم لساعات .... وأنا أمارس فعل الحيرة بشكل علني صريح. قلبي الصغير يرفض الهدوء ،كما الطفل الذي خاب أمله....ويصرخ حتى علا نبضه إلى طبلة أذني .التفت حولي بوجل لأتأكد أنه لاأحد ممن يملؤون قارعة الطريق بأجساد لا تملك ملامحا، قد سمعوا ضجيجه....وغضبه...
لم أتوقف عن البحث بعشوائية عن وجهك.....
أبحث.....وأبحث....وأنا أعبر الشارع باتجاه بائع الزهور العجوز ...الذي يعيش كما المغترب ..على هامش هذا الشارع البارد الرمادي....
وقفت أمامه مترددة ، أريد سؤاله عن شخص يحمل الشمس بجبينه....وغابات صنوبر وسنديان بفروة رأسه.......
عن شخص يحمل بعينيه ، أفقا لاينطفئ....شخص يتنفس وطنا.....ويتكلم عروبة.....
أيعقل أنه نسي ذكرى لقائنا؟؟؟......أيعقل أنه غفل عن الأمر ولم يتذكره؟؟؟؟

طالعني العجوز بمحياه الذي يبعث على الراحة...وهو يسألني:

- هل تريدين زهورا يا ابنتي؟؟؟؟

تململت أمامه بارتباك وخجل صريح...عاجزة على إيجاد سؤال ربّيته داخلي .وصغته بألف صيغة، ....ثم ضاع..ولاأعلم أين....
سؤال يرفض الموت بمقصلة شفاهي...ليظل حيا يرزق داخلي يبعثرني....ويعذبني أكثر.....
علت وجهه السموح حيرة دون حروف...وعلامات استفهام أميّة قد استقرت بجبينه ، قد خذلته لغة الحروف...فطفق يسألني بعينيه التي غطتهما ستائر التجاعيد ، يسألني عن سبب مشروع البكاء الذي يلوح بأحداقي وعن تلك الدموع الصغيرة التي ترفض النزول ، وتتشبث بأجفاني وأهدابي كي لا تسقط.....

- هل أنت بخير يا ابنتي؟؟؟؟؟

خفت بكبريائي الأنثوي الهش أن تسقط أمطار عيني إذا ما أغلقت أجفاني ...، فيتحول المشروع إلى واقع وحقيقة وسط المناديل الورقية الميتة...
فأبقيت أحداقي جامدة بلا حركة وأنا أطالعه بصمت ، ...لا أعرف ما أقول؟؟
خفت أن تهطل دموع لتجرف في طريقها كل أثر لرباطة جأشي الذي حاولت ان اكذب على نفسي في قوته....
وضاع كل ذلك ، أمام أولى نظرات التعاطف التي غمرني بها هذا العجوز الطيب...
اجهشت بالبكاء أمامه....وأنا أحشر رأسي الذي جملته لأجلك بين كتفي التي كساهما ثوب معطفي الخشن، ..أخبئ وجهي بكفيّ الصغيرتين...وأنا أنكمش على نفسي في تهويدة البكاء ، كأنني أحضن نفسي بنفسي....
والبكاء لا يعرف الانقطاع ...ولا يريد أن يعرف طريقه...
سارع العجوز الطيب بإحضار كرسي ووضعه أمامي بجانب قنديل يبعث الحياة لونا فوق تلك الزهور ، فيغمرها ببهجة تناقض ما أشعره الآن
وجلست ، وقد هدأت هذه المرة من عاصفة البكاء..وسط فوضى من مناديل
وأنا أتذكر ما قاله محمود درويش ذات مرة :

الموت مثلي يعشق فجأة..
وأنا والموت لانحب الإنتظار


لاح رفات ابتسامة شاحبة وسط دموع لم تجف بعد....وأنا أفكر أن عاصفة بكائي كذلك تأتي كما الموت فجأة..وأنها لاتحب الإنتظار...مثله...
كما لاأحب الإنتظار ....في غيابك المسموم.

الأحد، 16 يناير 2011

إفاقة...



كل شيء في مدينتي كان يصرخ بأنك الحلم الجميل الذي يعمّر بالنوم فقط، وسحابة الصيف التي لاتخلد في السماء. كل الجدران المسخومة بالضباب ودخان السيارات، الحبلى بألوان الطائشين تقول -متأخرة-بأنك مجرد فكرة.....لا يمكن أن أشيخ برفقتها. تتصادم الذكريات بشرايين الرئة، فأعجز عن التنفس ويصير التنهّد صعبا.
ولكنني، أتنهد، متعبة من مطاردة البشارات برحم مدينتي العقيم، و وعود السيارات الفارّة. أشيح بنظري عن الجدارن الواهمة ولوحات الإعلانات الكاذبة،.....وتراتيل المتسولين التي تستحضر كل أيقونات العالم السحري لأمعن النظر بكفيّ فقط. كانتا ذات يوم نضرتين،غضتين .....كيف سرقني العمر بكل وقاحة وأنا لا أزال أنتظر البداية؟؟؟
استفزّني السؤال، فحرّكت قدميّ برتابة على رصيف عجوز متخن الجراح والحفر والتجاعيد.....وبرك المطر، حتى أدخل إلى مكان يعد بالدفء.
"لازلت الساذجة التي تصدق الوعود المتكررة"
أخبرت نفسي بابتسامة منفصمة وأنا أمسح بنظري المتعب الطاولات و الجالسين عليها....,والوجوه الفارغة من الملامح، أخترت لنفسي مقعدا في الزاوية يواجه النافذة، كأن لاملامح أختلس النظر إليها بالداخل.
كنت دوما مولعة بالملامح الطافحة بالحياة، الساخرة من الموت.....ولاأحتمل النظر إلى الفارغة منذ أن شهدت أول وهج يخبو بوجه الحياة ليتبع الجسد نحو قبره

Image and video hosting by TinyPic


زجاج النافذة كان يرسم لي وحدي أشكالا تتدحرج وتنحني بقطرات البخار، راقبتها -نصف- مستمتعة وأصغيت لهمسها وسط صخب موسيقى ممل بالداخل وضجيج السيارات بالخارج
.
.
ورأيتها، كان شكلها لايختلف عن الأشكال المهرولة على الرصيف العجوز، ولكنها كانت تحمل ملامح. تحول اهتمامي عن ثرثرة قطرات البخار بزجاج النافذة، لأراقبها تتجول بسلة قبعات الصوف الملونة في ذلك الجو الباكي.....تحمل بأحشاء تقاسيمها المتعبة ابتسامة لا تستوعب جدران مديتني الإسمنتية دفئها. تعدل بكفها السمراء ألوان القبعات بالسلة وهي ترنم بلحن لم اسمعه وسط الضجيج، ولكنني تابعت ولادته، ابتسامتها ضاجّة بالحياة وساخرة ....تسخر من الموت ومني ومن العمر الذي سرقني...
وتعلن أنها!!
أجمل مني....ومن حلمي.

غياب....


تتسلقني أنامل الغياب...


فتخنقني بمخالب الذكرى


وأتمزق بين فصول السنة،


بين الصقيع وغياب الصقيع


أترنح مثخنة بين النضرة والشحوب...والأقنعة


أطرد المرايا ...


فلا أكون الشاهد بالجريمة


ألملم شظاياي و أربطها بحبال تقاسيمه...ودخان سجائره


,فأنكسر أكثر


وتحرقني أكثر


وأموت أكثر


ينشدني الفراق أنشودة تأبين


فتعيد بعث الألم حيا يبعثرني...



Image and video hosting by TinyPic

.

.

فلاأموت

مجرد حالة...فوضى


رفع نظره عن لعبه فجأة ، وحدّق بي طويلا بعينين واسعتين بلون العسل . انتبهت إلى أطياف الحيرة وهي تعلو أحداقه واستفسرته دون صوت، فطفق يسألني بصوت طفولي حائر:
- من أين يأتي الرصاص والبارود ؟


انذهلت من تساؤله المباشر وتحصنت خلف ابتسامة بلهاء وأنا أستغرب كيف لم أفكر يوما في مصدره وكيف كنت أهتم فقط إلى أين ينتهى وبصدور من يستقر؟؟؟ ولم يعد بجوفي أي كلام يصلح كإجابة، فتابع موضحا سؤاله بشكل اعتدت أنا على أن أفعله...

- أعني، هل يلتقطونه من مكان ما ؟؟ ..أو ينمو على الأشجار كما أشجار البلوط ؟….أقصد لما هو بهذه الغزارة..ومن أين يحصلون عليه ؟

تململت في مكاني بارتباك واضح .. ووضعت الكتاب الذي كان يشغلني من يدي بهدوء مصطنع بالغت به ، وأنا أنظر إلى هذا الطفل المليء بالتساؤلات المتفجرة عن كثب. كنت أحاول تجاهل جهلي وحيرتي بمحاولة فهم سبب هذا التساؤل الذي لم أتوقعه، وأشعر في نفس الآن كيف فشلت في حمايته من دموية ما حدث في غزة ، اعتمر قبعة هدوء مثخن بالثغرات ..أفكر بمنفذ لا يزعزع تصوره الطفولي الخرافي
بعجز بحثت عن الكلمات المناسبة وأنا أحركّ كفي بعصبية لاتخفى..وكأن حركتهما ستساعدني في إيجاد الإجابة المجدية...
- حسن أسامة ، الرصاص لا يأتي من أشجار، ....الرصاص يأتي من المصنع.
- الذي يصنع اللعب ؟؟...
.....ارتبكت أكثر وأنا أحرّك عيني إلى الأعلى وكأنني أتأمل اهتزاز أفكاري وهي تتأرجح بحبال الذكرى ، وتتجلى صور آخر قصة نوم قصصتها عليه من بين تلك الحبال ،...على شكل مصنع لعب خيالي ملون ... يعبق بأريج المرح والسرور...

ترددت في إجابة آخر ما فجّره أمامي ، وأنا أقلّب الأفكار والكلمات المبتورة بجوفي .. محتفظة بابتسامة بلهاء على وجهي حتى أبدو بمظهر متماسك ...حركت طرف لساني على شفاهي بطفولية احتجتها ساعتها .. ونظري تائه يتهادى بين اليمين واليسار ، وكأنه لازال يتابع تأرجح وهمي لأفكار لاتستقر ، .. هززت رأسي لأنفضه من فوضاه وما يتعلق بها ، وأخذت نفسا عميقا ، لأصيغ مايصلح مما سقط من أفكار بصوت كاذب في هدوءه:

- في الواقع ،..هو مصنع مختلف
-كيف؟؟؟....(بسرعة)
- لأنه ،..لأنه، لا يصنع اللعب...، بل يصنع رصاصا

شعرت أن إجابتي هي أسخف إجابة يمكن استخدامها لإرضاء فضول طفل مثل "أسامة" ، لكنها .. للحظات لم تبدو لي كذلك وأنا ألاحظ كيف خبا وهج حيرته وتعطشه،.....وكيف انهمك بلعبه من جديد.